رسالة الى السيدة ليلى الصلح حمادة
2020-04-06

بسم الله الرحمن الرحيم
جانب السيدة الجليلة ليلى الصلح حمادة حفظك المولى:
بعد التحية والاحترام:
أضع بين يدي حضرتك والعائلة الكريمة والمؤسسات الزاهرة التي تشرفون عليها ملاحظات هامة، فيما اظن، تتعلق بالكتاب القيم الذي يحمل اسم الراحل الكبير "رياض الصلح"، للكاتب المبدع "باتريك سيل"... والحقيقة أنني لم أكن أعلم أن باتريك سيل قد كتب كتابا بهذا العنوان، أو أنه أرخ لتاريخ العائلة من خلال تاريخ المنطقة، إلا خلال زيارة عارضة لإحدى المكتبات في صيدا... وباعتبار أن هذا الكاتب متخصص في تاريخ الشرق الأوسط... وقد بدات أسمع عنه عندما كنت في جامعة دمشق في كلية الشريعة الاسلامية في أوائل السبعينات من القرن الماضي... وقد كان كثير من الزملاء يوصونني بإحضار كتبه من لبنان باعتبار أنها كانت ممنوعة في دمشق... ولم يتسن لي أن أقرأ له شيئا حتى بداية التسعينات، ثم قرأت له الكتاب القيم أيضا... (الأسد: الصراع على الشرق اللأوسط)... وكان كتابا رائعا يضيء على جوانب لم نكن نعلمها، واستغرب وقتها أنه منع في لبنان لفترة، وقرأناه في نسخ مصورة... ثم سمح به بعد ذلك، مع العلم أن لا شيء يدعو لمنعه على الإطلاق، وقد أضاء على جوانب إيجابية في شخصية وسياسة الرئيس الراحل حافظ الاسد أكثر مما قد يفعله أنصاره وأحبابه... وذلك استنادا إلى وثائق ومقابلات وبحث علمي يستحق الاحترام...
اليوم، وبمساعدة (الحجر الصحي) نوعاً ما، أنهيت كتاب (رياض الصلح) في حوالي اثني عشر يوما فقط، وقد زاد (الحجر الصحي) من ساعات القراءة... فإن وقت القراءة الأثير لديّ هو ما بين صلاة الفجر إلى ما بعد الشروق بقليل، حيث أؤدي صلاة الضحى وأخلد بعدها إلى الراحة... وأستأنف النشاط خلال النهار، ولكن هذا الحجر وجمود مظاهر الحياة أضاف إلى وقت الصباح المميز أوقاتا أخرى من النهار والمساء... والحمد لله على كل حال... ورب ضارة نافعة...
أقول بادئ ذي بدء:
بداية أظن، أنه لا يوجد كتاب يمكن أن ينصف (رياض الصلح) أكثر من هذا الكتاب، ولا أظن أن أحدا بذل هذا الجهد الكبير ليؤرخ للراحل من جده أحمد إلى والده رضا وصولا إلى شخصه الكريم... وانه ليس من المنطقي أن يكون هذا الكتاب مجهولا... ولا أدري إن كان الأمر تقصيرا مني، أو من الإعلام، فلم أسمع بهذا الكتاب قبل الآن، وقد طبع في 2011 على ما هو مذكور في صفحاته الأولى...... وكانت الاضاءة على دور الوالد والجد في السلطنة العثمانية ووظائفهما وأهميتهما غاية في الأهمية... وصولا إلى يومنا هذا... لقد اشتهر رياض الصلح أنه بطل الاستقلال أو صانعه، وواضع ميثاق 1943 الذي ارتكزت عليه أسس الحياة السياسية اللبنانية، وهذا أمر هام ضمن التحولات الدرامية التي سبقت الاستقلال... وضمن تركيبة لبنان المتنوعة، والتي تحمل في طياتها بذور تفجر مستمر... ولكن لم يذكر أحد بهذا الشكل وبهذا التفصيل... دور رياض الصلح في النشاط السياسي الدؤوب في الدول العربية كلها تقريبا. وسعيه مع الوطنيين السوريين والعراقيين والأردنيين وغيرهم إلى الوحدة العربية، أو بالأحرى إلى التحرر العربي، ولم يذكر أحد بشكل واضح دوره في مقاومة الاستيطان الصهيوني ثم الاحتلال... لم نسمع قبل الآن عن معاناته مع المحتل الفرنسي والبريطاني بهذا التفصيل... وعن دوره الرائد في الحوارات الدائمة في باريس ولندن وسويسرا وغيرها دعما لقضايا الامة بشكل عام، حتى أصبح معتمدا لدى كثير من الزعماء العرب في إيصال الصوت العربي والإسلامي إلى المحافل الدولية و"مصانع" القرار.
وبرأيي المتواضع، لا يجوز أن تكون هذه المعلومات القيمة طي كتاب من الكتب، على أهميته... بل يفترض أن تكون ثقافة عامة متداولة في مجتمعنا... وإن قال قائل: هذا تاريخ انقضى، فلنا أن نؤكد له ولكل سائل: التاريخ يضيء طريق المستقبل، ومن يجهل تاريخه لن يفلح في بناء مستقبله... بالتأكيد...
وهنا لا بد أن اذكر بعض ما أعتبر أنه إضافة أضاء عليها الكتاب بشكل مميز، إضافة إلى بعض الملاحظات:
1- لقد كانت ثقافة رياض الصلح التركية والفرنسية، ثم الانكليزية فضلا عن العربية، والتي اكتسبها من تجواله مع والده وجده في البلاد الواسعة التي كانت تحت ظل الدولة العثمانية، ومن دراسته في المدارس التركية والفرنسية وغيرها... ثقافة تستحق التقدير والوقوف عندها، ثم لا بد من التعبير عن الإعجاب أن يصبح لبنانيٌ مسؤولا رئيسيا في مدينة يونانية أو عراقية، أو في بلاد الأناضول، أو في أي مكان... تأكيدا على وحدة هذه البلاد، وهذا الذي افتقدناه بزوال السلطنة العثمانية رغم أخطائها وخطاياها الكثيرة... لكن كانت رمزا لوحدة الأمة واتساعها وقدراتها المخبوءة.
2- غرق شقيقه أحمد في سالونيك، وكيف حمّل والده مسؤولية هذا الغرق... لأنه موظف عثماني... في منطقة تعارض الحكم العثماني وتوشك على الانفصال.
3- جلوس الراحل في حضن السلطان عبد الحميد صغيرا، وسكْب القهوة عليه عرضا، وكانت هذه الحادثة البسيطة دليلا على شيئ ما، حسب قول الراحل...
4- الوصف الدقيق الذي قدمه الكاتب للخريطة السياسية للمنطقة لدى انهيار الدولة العثمانية، ومشاركة بعض العرب في ثورة مزعومة طمعا في دولة عربية مستقلة، وما رافق ذلك من غدر بريطاني ووعود كاذبة ومماطلات تدل على غباء القادة والزعماء العرب من جهة، وضحالة الثقافة التي يعتمدون عليها بالمقارنة مع قدرات المستعمر المتنوعة والقادرة على التلاعب بمصير الجميع... وإنه لشيء هام أن يؤكد كاتب بريطاني على خطأ الحرب التي شنها بعض العرب على الدولة العثمانية، بل على هذه الخطيئة... وأن يؤكد بالوثائق تلاعب بريطانيا بمصائر الشعوب بغير حق.
5- تفصيل إجرام المستعمر الفرنسي في سوريا ولبنان... قصف دمشق عام 1925، إثر الثورة السورية الكبرى التي انطلقت من حوران بقيادة سلطان باشا الأطرش... والقصف الثاني عام 1945 والذي كان أشد وأنكى... ولكن يبدو أن قصف دمشق عام 1925 كان أشهر لأن أمير الشعراء شوقي خلّد تلك الجريمة البشعة بقصيدته الشهيرة: سلام من صبا بردى ارق... أما القصف الثاني فلم يكن هنالك أمير للشعراء يوثقه... وكأننا أمام سيف الدولة الذي لولا المتنبي لما ذكره أحد...
وهنا أرى أن الكاتب أخطأ في إغفال ذكر هذا القصيدة العصماء لدى تأريخه لهذه المجزرة البشعة.
6- محاولات رياض الصلح الدائمة في الإصلاح بين الوطنيين في دمشق والقدس وغيرها من العواصم... وان اضاءة الكاتب على اسم العائلة الذي اكتسبه فعلا من محاولات الجد ثم الأب الإصلاح الدائم في جنوب لبنان وغيره... وإن كان لم يسلط الضوء كثيرا على جذور العائلة، واكتفى بالقول أن جذورها من اليمن كأكثر العائلات العربية، ولكن أن تصبح العائلة جديرة بهذا اللقب بسبب دأبها على الاصلاح، وصولا إلى محاولات الراحل الإصلاح بين الحاج أمين الحسيني وأخصامه من آل النشاشيبي مثلا، وبين آل الأسعد وعسيران وبين شكري القوتلي وعبد الرحمن الشهبندر الخ... أمر لم يكن معروفا في الثقافة اللبنانية السياسية.
7- متابعات رياض الصلح للهجرة الصهيونية ومحاولاته المتكررة لجم هذه الهجرة الآثمة... من خلال اتصالاته الدولية... ليس أمرا عارضا، ومحاولات إقامة كيان عربي كبير يكون فيه لليهود بعض الحكم الذاتي، خوفا من ضياع فلسطين بأسرها، فكرة كانت رائدة في مرحلة ما... ,إن كانت بالتأكيد غير قابلة للتطبيق...
8- وان من أشد ما يستفاد منه، وصف الخيبات المتلاحقة التي أصيب بها رياض الصلح جراء فشل كا المحاولات العربية للوحدة أو للتقدم أو لتوحيد الصف ضد المستعمر الفرنسي أو البريطاني، وخاصة تعامل الملك عبد الله مع الصهاينة ودوره في إحباط المقاومة في حرب 1948، وأنه لا يستغرب أن يكون رياض الصلح رافضا للمقاومة العسكرية التي مارسها بعض العرب بكثير من الارتجال وانعدام التخطيط... وصولا إلى المآسي التي نتجت عنها وخاصة قصف دمشق في التاريخين المذكورين... ولو عاش ليومنا هذا لكان مع المقاومة المنظمة والواعية التي تمارسها المقاومة في لبنان وفلسطين من دون شك...
9- الدور الإيجابي الذي لعبه المندوب البريطاني ادوار سبيرز في احتضان مساعي رياض الصلح وصولاً للاستقلال... وكيف خالف التعليمات الصادرة عن حكومته، وقد دفع ثمنا باهظا لذلك... كيف يستطيع موظف واحد أن يترك بصمات واضحة في تاريخ الأمم، وان الوطنيين قد يجدون ثغرات في الجدر الصفيقة التي يبنيها المستعمر، ولا شك أن قدرة رياض الصلح على المحاورة والإقناع خلف هذه الثغرة الهامة.
10- يُقَدم لنا (الجنرال ديغول) كمحرر لبلده ووطني غيور، وهو كذلك بالنسبة لفرنسا، ولكن لم يكن كذلك بالنسبة لنا، لقد كان يرفض وقف الانتداب ويلجأ إلى العنف لاستمرار الاحتلال في لبنان والجزائر على حد سواء، وهذا جانب مجهول من شخصيته... للأسف.
11- إظهار الخيبة الكبرى كانت شخصية بشارة الخوري، شريكه في صناعة الاستقلال، وكيف ترك الأمر لأفراد من عائلته الحرية الكاملة في الفساد والإفساد والتدخل في شؤون الدولة بغير حق... واللطيف أنه يذكر بعض أسماء الموظفين الذين استقالوا بسبب تدخل (السلطان) سليم في شؤون وزاراتهم...
12- ولكن والله أعلم، وأهم ما في هذا الكتاب، تسليط الضوء على محاولة اسرائيلية لاغتيال رياض الصلح، وثقها كاتب اسرائيلي بالأدلة الدامغة... محاولة لم تفلح أو لم تصل إلى مرحلة التنفيذ... ولكن تؤكد أن اغتياله في 16 تموز 1951 كان مؤامرة اسرائيلية، اتخذ قرارها بن غوريون، وخطط لها الملك عبد الهغ وغلوب باشا، ولم يكن أفراد الحزب القومي السوري إلا أدوات تنفيذية لمخطط مرسوم بدقة، بدأ بدعوة رياض الصلح إلى الأردن والإصرار عليه للمجيء... وتفاصيل ذكرها الكاتب ينبغي أن تكون معلومة لدى الجميع. ولا أدري أية مصادفة هي: أن يموت والدي الأستاذ محيي الدين سليم حمود في 16 تموز أيضا 2001، وأن يدفن في 17 تموز، خمسون عاما كاملة بين التاريخين، ومع العلم أننا نحتفظ في العائلة بصورة لوالدي مع ثلة من الشباب الصيداوي مع الراحل رياض الصلح في الملعب البلدي في صيدا عام 1950 أو 1951.
13- لا أعجب من أنني أطلع على جزء مهم من تاريخ المنطقة وتاريخ لبنان من كاتب بريطاني... فالثقافة والعلم والمعرفة لا توضع لها حدود ولا يمنعها تنوع في العرق والدين أو المذهب، فهذا (سيبويه) الفارسي استنبط وكتب وقعّد قواعد اللغة العربية والأمثال على هذا الأمر كثيرة... بل اننا نشكر الله أن وجد مثله ليضيء لنا على أمور ينبغي أن نعرفها، وقد يستطيع الوصول إلى وثائقها أكثر منا... إلا ما يزال البريطاني يحتفظ به، وهو ملف اغتيال (رياض الصلح) الذي لم تفرج عنه الدوائر البريطانية حتى الآن رغم مرور حوالي سبعة عقود على اغتياله، والسبب واضح...
14- أقترح أن ينشر هذا الكتاب على نطاق واسع... وأن تجرى عليه مثلا مسابقات مدرسية أو جامعية أو ثقافية عامة... يعطى الفائزون اثرها جوائز قيمة بعد توجيههم لقراءة الكتاب أو لقراءة فصول منه، نظرا لضخامته... أتصور أن ذلك يحيي ثقافة ضرورية لفهم الواقع وبناء المستقبل.
15- كتبت هذه الملاحظات مباشرة لدى انتهائي من قراءة الكتاب، وقبل إجراء الاتصال مع الصديق العزيز رياض الأسعد الذي أخبرني أنه يعتبر أن كتاب "أحمد بيضون" يحتوي على تفاصيل أكثر أهمية وعلى صور موثقة، وسأعمل على قراءته أيضا إن شاء الله، ويفترض أن يكون الكتابان وغيرهما في خدمة الثقافة السياسية الضرورية لمن يعمل في الشأن العام.
وختاما... لا شك أنها ملاحظات سريعة، ويمكن أن نذكر كثيرا غيرها... ولكن قد تكون كافية مرحليا للتأكيد على أهمية هذا الكتاب وأهمية شخصية الراحل الكبير.
وتفضلوا بقبول الاحترام
الشيخ ماهر حمود