بسم الله الرحمن الرحيم

محسن ابراهيم رحمه الله - صامد رغم الانهيارات

بسم الله الرحمن الرحيم
عن محسن ابراهيم رحمه الله
بقلم الشيخ ماهر حمود
صامد رغم الانهيارات
إن أهم منظور ننظر من خلاله إلى شخصية القائد المميز، محسن ابراهيم، رحمه الله، هو انه عاصر الانهيارات الكبرى في العالم خلال أربعة عقود تقريبا، وهي انهيارات تاريخية ترتبط بشخصيته وخياراته التي هي بدورها تؤرخ لحياتنا السياسية المعاصرة.
الانهيار الأول: كان انهيار الخيارات الكبرى المرتبطة بالقومية العربية وبشخصية الزعيم العربي التاريخي (جمال عبد الناصر)، وذلك اثر هزيمة حزيران 1967، والتي فَجَعَت العالمَيْن العربي والإسلامي وفاجأت جميع الوطنيين والأحرار في العالم، وكانت سبباً في تحولات الكثيرين، إما إلى اليسار، كما كان خيار محسن ابراهيم وإما الى الإسلام، حيث انتعشت، اذا جاز التعبير، الحركات الاسلامية التي كانت ترى القومية منافيةً لطروحاتها.
خلال الفترة القومية كان قلمه سيالا ونشاطه مميزا، وكان بتمتع بشبكة علاقات واسعة تمتد من مصر إلى اليمن إلى كافة أنحاء العالم العربي... وكانت جريدة الحرية التي كان يرأس تحريرها ناطقة باسم أحلام جيل واسع من الشباب... وما لبثت هذه الأحلام أن تلاشت... ولا حول ولا قوة إلا بالله... لقد كانت حركة القوميين العرب تضم نخبة من الشباب العربي المثقف المسيس، كانوا يحملون الأحلام الوردية في الوحدة والحرية والنصر... قبل أن يتبخر كل ذلك.
والانهيار الثاني: كان انهيار الوضع اللبناني والحرب الأهلية ودخول المقاومة الفلسطينية الى المعترك اللبناني مما شغلها دون شك او ريب عن مواجهة العدو الصهيوني بشكل من الأشكال، لكن دور محسن ابراهيم كبر مع تعاظم دور الحركة الوطنية المتحالفة مع المقاومة الفلسطينية وصولا الى الانهيار الثالث: خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان بعد الاجتياح الاسرائيلي الغاشم عام 1982 وتفرق شمل الحركة الوطنية... كان انهيارا كبيرا دون شك وإيذانا بمرحلة جديدة تختلف كليا عما سبق، وبالنسبة إليّ، فهذه اهم مرحلة في حياته، ذلك انه اثبت صمودا بل رسوخا في الموقف في مواجهة العدو الصهيوني وعملائه في الداخل والمستسلمين الى ما سمْوه (الامر الواقع) ليخفوا ضعفهم وانهيارهم الاخلاقي قبل السياسي... وهذا ما قاله لي في زيارة قام بها لي في منزل صهري الدكتور كمال بكداش (الذي كان لفترة ما من محزبيه كما أكثر شباب وشابات العائلة) في بيروت وبطريقة امنية، وذلك اوائل وصولي الى بيروت في شباط 1983 بعد ان قضيت زهاء ثمانية اشهر تحت الاحتلال احرّض على المقاومة وأواجه، والحمد لله، بكل وضوح انتخاب بشير الجميل رئيسا للجمهورية ومديناً الذين انتخبوه والذين أيدوه وصفقوا له، ولا شك انه كان يتابع الاخبار، فكانت زيارته بمثابة تهنئة لي على مواقفي تحت الاحتلال... سألته خلال ذلك أين اصبحت الحركة الوطنية ؟ وأين هم رموزها الذين كانوا يصرخون مع المقاومة في وجه اسرائيل قبل الاجتياح؟ قال للأسف –واستعمل هذا التعبير- (فرطوا) لم يبق منهم احدٌ صامدا، وذكر لي بالاسم واحدا من اعضاء المجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية، قال هذا مثلا استدعته القوات الاسرائيلية للتحقيق لدى دخول الاحتلال لمدة ثلاثة أيام تقريبا إلى بيروت بعد مقتل بشير الجميل وخلال مجازر صبرا وشاتيلا التي دامت ثلاثة أيام، قال: قال له الضابط الاسرائيلي مؤنبا بلهجة قاسية: بأي حق تساند المقاومة الفلسطينية؟ قال له (سِيدنا) هكذا بهذا اللفظ، نعم بهذا اللفظ، سِيدنا قلنا منساعدهم بيرجعوا على بلادهم، فانتهره الصهيوني بشدة مستنكرا بلادهم ؟؟؟ فقال له سِيدنا (مرة أخرى) هنّي هيك بيقولوا، قال محسن ابراهيم: هذا نموذج من القيادات التي كانت تعتبر نفسها وطنية، اما هو فالشهادة لله ورغم الظروف الامنية الدقيقة التي كانت تمر بها بيروت والأجهزة الامنية التابعة لأمين الجميل تعتقل وتغتال وتجوب المناطق ليلا نهارا، فلم يوفر لحظة إلا وأصدر فيها بيانا او تعليقا في وجه الاحتلال والعملاء واتفاق 17 ايار والمفاوضات التي سبقته (هذا طبعا فضلا عن إعلانه عن جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية "جمول" مع شريكه جورج حاوي، كان ذلك في 16 أيلول 1982)، وكان من اهم ما كتب في ذلك الوقت، وفي الفترة التي كانت فيها بعض القيادات الدينية والوطنية المزعومة تشيد بأمين الجميل وانجازاته وترّهاته، كما قال لي أحد اهم القيادات الاسلامية، (امين الجميل افضل رئيس أتى إلى لبنان حتى الآن)، في هذا الظرف الدقيق حيث اختلطت الاوراق وضاع صوت الحق، وخفت صوت الايمان الحقيقي... اصدر بيانا سخر فيه من خطاب امين الجميل في الامم المتحدة مفندا هذا الخطاب كلمة كلمة، يقول له لو قلت كذا لكان افضل ولو انك لم تقل هذا كان اسلم، وكأنه أستاذ يصحح لتلميذه ... الخ، كان موقفه برأيي خلال السنة الاولى التي تلت الاحتلال وقبل ان يسقط اتفاق 17 ايار في 6 شباط 1984 وقبل ان يبرز صوت المقاومة بشكل واضح ويهتز الاحتلال وتتزلزل أركانه، كانت مواقفه في تلك الفترة تدل على وضوح في الرؤية السياسية وشجاعة قل مثيلها ورجاجة عقل وثبات على الموقف الوطني يندر مثله.
ومن المضحك المبكي، أن كثيرا من القيادات المسماة وطنية وجدت لها مكانا في كل مرحلة، فانتقلت من اليسار إلى اليمين الأميركي أو إلى الوظيفة، بمعنى يؤدي وظيفة سياسية وفق ما يطلب زعيم الطائفة أو أي زعيم دون أي اعتبار للالتزام السياسي والأخلاقي... ومنهم اليوم من يرثونه ويمجدونه فيما كان هو يشتمهم ويهزأ من خياراتهم السخيفة.
وهنا لا بد من استثارة الذاكرة فليلا حيث جرى بيني وبين الراحل العزير حوار يمكن وصفه بالتاريخي، وذلك من خلال تقبل التعازي بعمي المرحوم الشيخ (محمد أنيس حمود) مفتي صيدا الأسبق ، وذلك في حزيران 1979، ولم أكن قد ارتديت العمامة بعد، كنت ملتحيا، أمارس الإمامة والخطابة... الخ، جاء خلال التعازي عالم دين معروف بأخطائه بل انحرافاته الفكرية والسياسية المتكررة، وخلال حديثه مع أبي خالد امتدح الشيوعية، قائلا أنها حققت شيئا بالمقارنة مع العالمين العربي والاسلامي اللذين لم يحققا شيئا، فاعترضت كلامه قائلا: غير صحيح، لم يحققوا شيئا ... فاعترض محسن ابراهيم وقال: كيف ذلك، قلت: بالمقارنة مع الشعارات الكبرى للشيوعية، وواقع المعسكر الاشتراكي، لم يتحقق جزء من الأهداف الكبرى، ثم أتممت حديثي بعد خروج ذلك الشيخ قائلا له: سترى ماذا سيحقق الإسلام قريبا، فقال لي: عادة أنتم الإسلاميون سلاحكم الماضي وليس المستقبل، قلت: مثل هذا الذي انصرف الآن سلاحه الماضي، أما أنا فسلاحي المستقبل، فما هي إلا سنوات قليلة حتى حققت، بحول الله، المقاومة الإسلامية ما لم يحققه أحد، ثم توالت الأحداث حتى سقط الاتحاد السوفييتي، وبعد تحرير صيدا بفترة قصيرة، لعله العام 1986 ألقيت خطبة جمعة كانت مذاعة، وكان موضوعها هذا الحوار التاريخي مع محسن ابراهيم، وصادف أن سمعها أحد أركان منظمة العمل الشيوعي وقتها، وحصل أن حدثته لاحقا عن هذه الخطبة، فقال: سمعتها، وتأثرت... فقلت في نفسي: الحمد لله... ثم ما لبثت أن تفاجأت: تأثر هذا الركن، ولكنه لم يأت للإسلام، بل ذهب إلى المعسكر (الرأسمالي السعودي)، سبحان الله.

الانهيار الرابع: سقوط الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية عام 1990، ولعل هذا الانهيار هو الاهم في حياته حيث كان من اقرب المقربين الى الاتحاد السوفيتي متميزا عن الحزب الشيوعي المرتبط عضويا بالحزب الشيوعي السوفيتي ، يفترض أن ذلك قد أحدث عنده تراجعا عن الفكر الشيوعي، ولكنه لم يعلن شيئا من ذلك، ولكنه أسرّ لي في لقاء شيئا يؤكد ذلك.
ولكن هذا لم يجعله يتراجع عن الاهداف الوطنية الكبرى وعلى رأسها فلسطين، لقد ظل وفيا لفلسطين وللشهيد ياسر عرفات بشكل خاص، لم يتزحزح عن العلاقة المتينة التي كانت تربطه به، رغم الضغوط والمخاطر الكثيرة التي تحاصر هذا الخيار.
وبالتأكيد لم يكن ليوافق على كل شيء، فلقد قال لي مثلاً ابان وجود الشهيد عرفات في طرابلس: لو استشارني لما اشرت عليه بالمجيء الى طرابلس، لعله، دون ان يقول ذلك كان يشهد جزءا من الانهيار المؤلم بالنسبة اليه: اسلاميون يتولوْن مؤازرة ياسر عرفات في طرابلس والدفاع عنه، اين اليساريون؟ لم يعودوا موجودين الآن ليخوضوا مثل هذه المعركة...
انهيار خامس: لا ادري ان كانت هذه التسمية تناسب هذا الحدث ام لا؟ خروج القوات السورية من لبنان في نيسان 2005: هنا تلتبس الأمور، فلم يكن يوما من مؤيدي السياسة السورية التي كانت تصطدم دائما "بتكتيكات" ابو عمار رحمه الله، لقد كنا خلال معركة طرابلس نظن ان سوريا تحارب عرفات لتقضي على ما تبقى من المقاومة الفلسطينية لتصالح اسرائيل، لقد كانت هذه الفكرة رائجة، وللأسف، حاربت تحت رايتها حركة التوحيد وحلفاؤها الى جانب الشهيد عرفات وما لبثت ان اُحبطت واُحبطنا جميعا عندما وصل عرفات الى مصر بعد حصار طرابلس ومعركتها خريف 1983، سئل الشيخ سعيد شعبان وقتها: ماذا تقول في ذهاب عرفات الى حسني مبارك، فأجاب رحمه الله: ان كان ذهب لإقناعه بالخروج من كامب دايفيد فهذا امر ايجابي، وان كان ذهب لينضم الى هذا السلام المزيف فهذا امر مدان، قال هذا بألفاظ مشابهة... لقد كانت صدمة كبيرة لنا ان يبدأ ياسر عرفات رحمه الله باللقاء مع ركن كامب دايفيد في المنطقة في ذلك الوقت ليصل الى "اوسلو" في ايلول 1993، ولكنه، والحمد لله، ختم حياته مقاوماً محاصَراً في "المقاطعة" مقتولاً بالسم الاسرائيلي – الاميركي – العربي، وها هو "اوسلو" اليوم يشهد نهايته من خلال إجراءات ترامب الوقحة ومن خلال صفقة القرن المزعومة الفاشلة هي الاخرى.
الذي اريد قوله: لم يكن لينسجم مع السياسة السورية التي كان يصفها بالقسوة والجمود وتكرار الأخطاء في التفاصيل، وكان يعبر عن ذلك دائما وبالنكتة الظريفة التي كان يشتهر بها، سأل عبد الحليم خدام يوماً: يبدو انك خففت وزنك يا ابا جمال، قال: نعم بقرار مني، قال خدام وانت يا ابا خالد: يبدو انك خففت شيئا من وزنك أيضا، قال له دون تردد: أما أنا فبقرار منكم...
من هنا ولأنه لا ينسجم مع الشخصيات التي تولت العمل لصالح السياسة السورية في لبنان، كان يمتنع عن الظهور في وسائل الاعلام خلال الفترة ما بين 1992 و 2005، احتراما او تحاشيا للاصطدام مع المنظِّرين للسياسة السورية في لبنان بكل ما فيها من اخطاء تفصيلية وثبات على الأهداف الاستراتيجية... ولكنه، برأيي، لم يكن ليرحب ابدا بالخروج السوري من لبنان لأنه بالتأكيد جاء، هذا الخروج، ليس لتصحيح الاخطاء بل للدخول في الخيار السياسي الاميركي المباشر... ومهما يكن من الامر ما اظنه إلا انه كان يحترم ويقدر عالياً الصمود السوري في وجه السياسة الاميركية ورفضه التوقيع على استسلام مع اسرائيل، والدعم غير المحدود الذي تتلقاه المقاومة من سوريا، ولكن لم يكن له مكان في هذا العالم الجديد.
ظل ثابتا على فلسطين والمقاومة، ينتقد المقاومة لأنها اصبحت دينية فقط ملتزمة بخيار فقهي واحد ومرجعية واحدة، لا تفسح المجال، حسب رأيه للآخرين... في الوقت الذي يعلم فيه تماما ان هذا الالتزام يمدها بقوة وعزم لا تجده في مكان آخر، وان هذا الالتزام وهذه المذهبية التي صُبغت بها المقاومة قد تستحق انتقادا من الآخرين، وقد يكون هذا الانتقاد مقبولا في جزء او جزئين من عشرة أما باقي الأجزاء فلا، طالما أن ليس هنالك على سطح الارض من يدعم المقاومة ويؤمن بزوال اسرائيل ويدعم المقاومين على تنوعهم اينما وجدوا، إلا الولي الفقيه... والبحث يطول في هذه النقطة.
كان جريئا في نقده للآخرين وللحلفاء، كان على سبيل المثال مع وفد موسع من الحركة الوطنية في مطار طرابلس الغرب الدولي ينتقلون من قاعة الترانزيت الى قاعة اخرى حيث كُتب بخط عريض فوق الممر المؤدي الى القاعة الاخرى: الى الأمام فأوقف الوفد بحركة من يديْه الاثنتين ان توقفوا، قائلا: لا تتقدموا من هذا الطريق لقد كتب عليه الى الإمام مشيرا الى اختطاف واختفاء الامام الصدر في ليبيا بكل جرأة وبلهجة ساخرة هازئة.
وفي إحدى محاولاته الجادة في إجراء نقد ذاتي للحركة الوطنية اللبنانية، كتب من جملة ما كتب (لقد كان من أخطائنا أننا استسهلنا ركوب مركب الحرب الأهلية وصولا لأهدافنا)، لقد كان هذا النقد في محله، وعوضا أن يرحب بهذا الجميع، تعرض بعد كلمته لهجوم واسع وانتقادات لاذعة، جعلته يلوذ بالصمت عندما رأى أن زملاءه وأصدقاءه لن يتحملوا مرارة النقد الذاتي، وتتمة لهذه الفكرة، سألته مرة لماذا لا تظهر على الشاشات تتحدث عن تجربتك الغنية، قال: إنهم يدعونني دائما، ولكنني أقول لهم: لن تستطيعوا أن تتحملوا تبعات الكلام الذي سأقوله... قلت على الأقل اكتب مذكراتك، قال سأفعل إن شاء الله، ولا أدري ماذا حصل بعد ذلك.
يمكن ان نكتب الكثير عنه لأنه، كما ذكرنا، شاهدٌ على المتغيرات الكبرى في وطننا الكبير ثاقب النظرة ثابت الجنان، واضح التعبير، لا يتردد في مواجهة الصعاب، كنت اتمنى ان يُفصِح بالتفصيل عما آلت اليه افكاره خلال عزلته الطويلة التي قاربت العشرين عاما بل الثلاثين، لا يظهر إلا قليلا، لا يفصح عن افكاره إلا نادرا، وما اظن إلا وأصبح قريبا من الخيار الإسلامي، وقد اسّر لي ذلك يوما، دون اي تفصيل واعدا بإعطاء المزيد من التفاصيل في لقاء لاحق، لم يحصل...
قد أجد من المناسب ان اكتب غير هذا المقال، لان الذكريات تتزاحم عند الحديث عنه وعن تجربته الواسعة.
رحمه الله، وأرجو ان نستفيد جميعا من تجارب من سبقونا على طريق العمل الوطني، فالجميع يحتاج الى المراجعة والنقد الذاتي، ولم يُفلح اي اتجاه في كل شيء، من افلح في مجال فشل في آخر، فعسى أن تتكامل التجارب لنأخذ من كل شيء احسنه... مع التأكيد ان مسيرة المقاومة نحو تحقيق الوعد الالهي، ألا وهو زوال اسرائيل، مستمرة واضحة الرؤية تنتقل من انجاز الى آخر، ولكن لا بد من انهيارات اخرى حتى نصل الى الهدف الموعود، واهم انهيار متوقع: انهيار السياسة الاستكبارية الاميركية في منطقتنا.
وان غدا لناظره قريب....