بسم الله الرحمن الرحيم

تعليق على كتاب أسرار الحرب اللبنانية – الجزء الأول - آلان مينارغ

بسم الله الرحمن الرحيم
تعليق على كتاب أسرار الحرب اللبنانية – الجزء الأول (آلان مينارغ)
أولا: في الشكل:
1- يقع هذا الكتاب مع الملاحق في حوالي 575 صفحة، وهو يؤرخ لسنتين وشهر واحد من الحرب اللبنانية، من آب 1980، إلى مجازر صبرا وشاتيلا في أيلول 1982... وعندما يؤرخ كتاب لسنتين ونيف فقط في هذا العدد من الصفحات، فمعنى ذلك أنه دخل في التفاصيل وحاول أن يحيط بها بشكل كامل.
2- لا شك أن الكاتب قد اعتمد في هذا الكتاب على محاضر اجتماعات موثقة حصل عليها من مسؤولين بارزين في القوات، كما اعتمد على شهادات بأبطال هذه الأحداث... وإن كان الاعتماد على محاضر الجلسات أقوى لأنه يصف الأمور بدقة، والكلمات كلمة كلمة، مع وصف للابتسامات أو حركات اليد أو غير ذلك وكأنك جالس في هذا الاجتماع أو ذاك... وذكرني من خلال مبالغته بالتوصيف بما قرأنا عن الكاتب الفرنسي (بالزاك) في الصفوف الثانوية، انه كان يبالغ في الوصف وكأنه مندوب الحجز القضائي commissaire priseur . والسؤال كيف حصل على كل هذه الوثائق، وهل دفع مبالغ طائلة أو استعمل العلاقات الشخصية؟ الله أعلم.
3- الترجمة غير متقنة... وهنالك أخطاء لغوية (غير فادحة)، ولكن لا تتناسب مع أهمية الكتاب، رغم أنه ذكر أن الترجمة أو التعريب بالأحرى قام بها عدد من المتخصصين.
4- كنت أتمنى أن يرفق ببعض الصور التي توثق الاجتماعات والأماكن وبعض الحوادث... كان هذا ليؤكد الفائدة.
ثانيا: في المضمون:
1- كتاب ممتع للمهتمين... لأنه طبعا يعطي التفاصيل لأمور نعرفها بالإجمال، وكنا نتوق للاطلاع على خلفيات الأحداث، وقد شفى ظمأنا لكثير من الأحداث المهمة والرئيسية.
2- لا أجد أي سبب مقنع يجعلني أشكك في صدقية الكتاب ودقة ما سرده وما نقله، فكله يتوافق مع الفكرة العامة المتداولة لدى الرأي العام، وفق القاعدة التي وضعها العلامة ابن خلدون أن تتوافق الرواية مع علم العمران... أي مع ما نعرفه عن الإمكانيات المتاحة والمعقولة في المجتمع الذي نتحدث عنه.
3- يعيد الكتاب طرح الأسئلة التاريخية التي لم يجد اللبنانيون لها جوابا شافيا رغم اتفاق الطائف وتعاقب الاجيال وآلام الحروب المعارك والخصومات الحادة الخ... وعلى رأس هذه الأسئلة عقدة الخوف لدى المسيحيين، وهل تبيح لهم هذه العقدة التعاون مع عدو البشرية (الصهيونية)؟ وعقدة الغبن لدى المسلمين وايمتى يشعرون أنهم حصلوا على حقوقهم في الدولة المقتطعة من العالم الاسلامي العربي الشاسع...؟
4- يطرح الكتاب مخاطر الصهيونية العالمية وقدرتها على التأثير على القرار الأميركي والدولي... لقد أكد هذا بيار الجميل في حواره مع المسؤولين الاسرائيليين (على سبيل المثال) مع شارون وغيره، أنتم شعب ذكي يبلغ عددكم 15 مليون نسمة، ولكنكم تسيطرون على القرار العالمي، الخ!!!
5- جدد الكتاب السؤال التاريخي، هل بشير الجميل مجرم حرب وزعيم عصابة، أو هو مناضل من أجل الحرية، كما يزعم البعض في لبنان؟ واضح أن الجواب هو هو: كل فريق يجيب من خلفيته، وليس هنالك جواب موضوعي مجرد بالمطلق... الحقيقة المطلقة عند الله فقط؟ إشكالية ستبقى مزعجة تقرع عقولنا وأفكارنا وتسيء إلى الحياة السياسية في لبنان إلى أمد غير معلوم...
بعد هذه المقدمة لا بد من تعليق متعدد الجوانب:
أولا: لقد قادني إلى هذا الكتاب حوارٌ مع فاعليات اجتماعية وسياسية حول شخصية ودور فخامة الرئيس ميشال عون، والفارق بينه وبين جبران باسيل... فقال لي أحد المطلعين، وهو عميد متقاعد من الجيش اللبناني: إن أردت أن تعلم من هو ميشال عون فاقرأ هذا الكتاب... وبدون بحث جدي وجدته في مكتب الاتحاد في بيروت، وقد زود به مكتبتنا الدكتور مصطفى اللداوي المكلف هذا الجانب، ثم جاءت جائحة الكورونا لتدفعنا إلى القراءة الجدية (رب ضارة نافعة).
ولعل ما ذكرناه هو جزء مهم من هذا الكتاب، حيث يؤكد الكاتب أن العقيد، ثم العميد، ثم قائد اللواء الثامن في الجيش اللبناني ميشال عون، كان خلال مرحلة من المراحل من فريق عمل بشير الجميل، من الدائرة الصغرى، وكان يحمل الاسم الحركي "جبرايل"، وأنه قدم بالاشتراك مع (نبتون) الذي هو انطوان نجم، كلفا تقديم تقرير عن إمكانية القيام بانقلاب عسكري أو سياسي لاستلام السلطة قبل نهاية ولاية الرئيس الياس سركيس، كان هذا في صيف 1980... الأمر الذي لم يحصل (أي الانقلاب)... ثم ان الضابط ميشال عون كان موضع ثقة بشير الجميل يقترحه دائما للمهمات الدقيقة والصعبة، إلا أنه لم يستجب لطلب القوات الدخول إلى بيروت الغربية بعد مقتل بشير الجميل إلا ان أمرته السلطة السياسية بذلك.
قد تستعمل هذه المعلومة ضد فخامة الرئيس، وقد يعتمد عليها (عكس ذلك) للتنويه بقدرته على الانتقال من معسكر إلى آخر ومن فريق إلى آخر... وباعتبار أن هذا الكتاب على الأرجح كتب قبل اغتيال الرئيس الحريري رحمه الله أو بعد ذلك بقليل، حيث كان الرئيس ميشال عون لا يزال في 14 آذار، بل ركن 14 آذار... فان من المفترض أن الكاتب لم يقصد بذلك الإساءة ولا المديح، بل انه يصف الأمور كما هي، إلا إن كانت هذه المعلومة قد أضيفت في الطبعات التالية، وهذا مستبعد جدا.
نقول ان وثيقة (مار مخايل) مسحت شخصية (جبرايل) و(جبّ) التاريخ السابق... إلا أن ما ذكرناه في أكثر من مناسبة عن شخصية جبران باسيل الطائفية والفئوية ودعم فخامة الرئيس له يطرح السؤال من جديد، هل هذا التاريخ أصبح خلفنا أم أنه يلاحقنا ليفسد كل إيجابية في الحياة السياسية اللبنانية؟ الله أعلم.
قد يكون الجواب في الحديث الشريف: (إنما الأعمال بخواتيمها)، ولقد تعودنا أن يبدأ الرئيس اللبناني الماروني حكما، أن يبدأ حياته السياسية مسلما عربيا في السياسة وينتهي انعزاليا منغلقا... ولعل الاستثناء الوحيد هو الرئيس فؤاد شهاب، وبالتأكيد الرئيس اميل لحود، والمثل الأبرز على الذي ذكرناه هو الرئيس كميل شمعون، الذي بدأ حياته السياسية (فتى العروبة الأغر) وانتهى بفتنة 1958 بما تحمل من أنانية وتخلف وانعزال وارتباط بالسياسة الغربية...
نتمنى أن يتم الرئيس ما تبقى من ولايته انطلاقا من مار مخايل وليس من شخصية جبرايل، ومن يعش ير...
ثانيا: لعل حدثا واحدا ذكره بيار الجميل للمؤلف يلغي أي عذر محتمل يبرر للمسيحيين التعامل مع اسرائيل انطلاقا من عقدة الخوف، فلقد أكد بيار الجميل أنه طلب من الاسرائيليين مبلغ عشرة آلاف دولار عام 1951 دعما لحملته الانتخابية، فأرسلت اسرائيل ثلاثة آلاف دولار فقط... في ذلك العام، وليس هنالك من قومية عربية ولا مقاومة فلسطينية، كيف يمكن تبرير هذا الطلب؟ وأين يوضع تحت شعار السيادة والاستقلال؟
ثالثا: في تفاصيل مجزرة صبرا وشاتيلا، يقدم لنا الكاتب المعلومات الكاملة عن مجزرة صبرا وشاتيلا كاملة ودون تردد... بعد الجدال الطويل عنها خلال سنوات، وقد استقى معلوماته من شهود عيان وقضاة لبنانيين حققوا في المجزرة، والطبيب الشرعي الذي عاين أكثر الجثث.
دخل الاسرائيليون أولا ظهر الأربعاء 15 أيلول، وقتلوا حوالي 65 مثقفا فلسطينيا وفق لوائح محددة ( أطباء مهندسون حقوقيون الخ...) في مخيمي صبرا وشاتيلا بالاسماء، وقد سكنوا أزقة المخيم وكأنهم يعرفونها عن ظهر قلب دون تردد.
ثم اتوا بعناصر من جيش لبنان الجنوبي الخميس 16 أيلول فارتكبوا مجازر محددة ثم فتحوا الطريق لإيلي حبيقة، وعنده مجموعة شبه مستقلة عن القوات تسمى (زعران القوات)، كان بشير يريد أن يطردهم فاستوعبهم حبيقة لأنهم مقاتلون أشاوس، هؤلاء الذين ارتكبوا المجازر الكبرى وأشنع الجرائم من مساء الخميس حتى ضحى الجمعة 17 ايلول...
عدد ضحايا المجزرة حسب الطبيب 325 مع هامش خطأ لا يتعدى 15%، يعني حوالي 400، وهذا الرقم المقبول، وهذا الرقم المتواضع لا يخفف من هول المجزرة، و، ولقد اعتدنا على تضخيم الأرقام في الحروب خاصة، وفي إحصاء آخر وصل العدد إلى حوالي 500، أما المفقودون فهم حوالي 300، وهذا أيضا رقم متواضع بالمقارنة مع من تحدث عن ألفين أو ثلاثة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
رابعا: هنالك شيئ لافت جدا، أن الاسرائيليين كانوا يتهمون القوات دائما أنهم جماعة حكي يريدون من إسرائيل أن تفعل لهم كل شيء، وأن يقطفوا النتائج دون تعب.
خامسا: "لم يحترم" الصهاينة الخصوصية اللبنانية، وقد طالبوا بشير الجميل بإعلان عزمه على توقيع صلح مع الصهاينة مباشرة بعد انتخابه غير آبهين بما يمكن أن ينتج عن ذلك من أضرار على علاقة لبنان بالدول العربية التي لم تكن وقتها قد انخرطت بالتطبيع العلني، و ان الحوار العاصف بين مناحيم بيغن وبشير الجميل بعد يوم أو يومين في نهاريا وفي مكان غير لائق من أجل السرية، يختلف كثيرا عما هو مشهور بين الناس وما يروجه القوات، فقد خاطب بيغن الجميل بكثير من القسوة في هذا الصدد، أي أنه عاتب بشير بقسوة لأنه لم يشكر اسرائيل على دورها في لبنان وإخراج "الإرهاب" ولم يتحدث عن ضرورة توقيع مشروع سلام، ولم يستطع بشير إلا وان يرد بشكل خجول، وليس كما كنا نظن أن آخر لقاء كان عاصفا بسبب ان بشير طلب منهم أن ينسحبوا لأن مهمتهم انتهت، هذه اكذوبة قواتية.
سادسا: لقد لمست القوات أن الصهاينة لا عهد لهم وأنهم مستعدون أن يحرقوا أقرب المقربين من حلفائهم من أجل مصلحتهم، كما مارس الصهاينة مع القوات الابتزاز بأبشع صوره، ولكنهم للأسف لم يعلنوا ذلك في الإعلام، ولم نسمع حتى الآن نقدا ذاتيا لهذه التجربة المجنونة.
سابعا: ان علاقة القوات اللبنانية والكتائب والأحرار بإسرائيل أوثق بكثير مما نظن... كما أنها قديمة متجددة... وكانت تمر بمد وجزر وفق حاجة الصهاينة وليس العكس، و كانت تشوبها أحيانا فترات من الخصومة... ولكن هذا لم يكن ليؤثر على استمراريتها... ولكن نؤكد مرة أخرى أن الموارنة في لبنان يفترضون أنه العالم كله وليس فقط فرنسا ملزم بالدفاع عنهم وحمايتهم وتلبية رغباتهم كواجب إنساني عالمي تجاه فئة من البشر تحمل صفات يجب على البشرية أن تحافظ عليها... فكرة لا تخلو من المراهقة بل من الطفولة السياسية المفرطة.
ثامتا: لا بد من البحث عن حجم المسؤولية "الإسلامية" التي ولّدت عقدة الخوف لدى المسيحيين، سواء كانت صحيحة أم مفتعلة، ذلك أن الشريعة الإسلامية توجب على المسلمين حماية أهل الذمة حماية كاملة، وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من آذى ذميا فقد آذاني)، ولكن الواقع لم يكن كذلك... لقد قام الإمام الأوزاعي بفتواه المشهورة بحماية (الجراجمة) أجداد الموارنة الحاليين وفقا للقاعدة الإسلامية القرآنية (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، ولكن الوالي العباسي كاد يقوم بأمر مخالف للشريعة بشكل كامل، ثم ودون أدنى شك لم يتوفر للمسلمين في كل المراحل عالم كالأوزاعي يقف الموقف الشرعي المناسب في وجه الحاكم مهما كانت التبعات المحتملة، لقد مارس المماليك والأتراك العثمانيون وغيرهم ظلما متفاوتا على الأقليات في الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، ولا شك أن كثيرا ممن تولى الحكم باسم الاسلام أساء كثيرا لصورة الإسلام من حيث أنه دين العدالة والقسطاس والأمن والأمان كما يأمر القرآن، وأعطوا صورة معاكسة تماما للأوامر الإسلامية... وهذا ينطبق على عصرنا الحاضر وصولا إلى تجاوزات المقاومة الفلسطينية في لبنان ووصولا إلى الدواعش والنصرة وكثير ممن يدعي تطبيق الإسلام.
إلى أي حد يشكل الانحراف والظلم الذي يمارس باسم الاسلام تبريرا لعقدة الخوف لدى الأقليات وما ينتج عنها من عمالة أو استنجاد بالغرب أو ما إلى ذلك؟ سؤال صعب، والجواب أشد صعوبة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تاسعا: مختصرا الكتاب مهم ومفيد ولا غنى عنه لمن يريد أن يعلم تاريخ لبنان المعاصر، والعبر التي تستخلص منه كثيرة ومتنوعة، ونكتفي بهذا القدر بانتظار مطالعة الجزء الثاني.