بسم الله الرحمن الرحيم

الأسد الهمام .. البطل المغوار.. الصادق الصامد الصامت: عماد مغنية

بسم الله الرحمن الرحيم
الأسد الهمام .. البطل المغوار.. الصادق الصامد الصامت: عماد مغنية
منذ اللحظة الأولى التي تتعرف بها عليه تكتشف انه شخص مميز، وتعلم باليقين انه يضمر في شخصه من الصفات ما هو أكثر من الابتسامة اللطيفة والرقة في المعاملة... هكذا ودون أي تردد استطيع أن اصف اللحظات الأولى التي رأيته فيها، ذلك على الأرجح في صيدا في العام 1981، وكان برفقة العلامة المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله حيث لبى دعوتنا إلى صيدا لإلقاء محاضرة تحت عنوان "واجب المسلم في الربيع الأخير من القرن العشرين".
كان ذلك في الطابق الرابع من القصر البلدي وكانت القاعة مليئة، لبى الجميع الدعوة، وجلس الشهيد "عماد مغنية" إلى النافذة ينظر من خلالها إلى الساحة الرئيسية في مدينة صيدا (ساحة النجمة) والبحر خلف المشهد مع بعض التفاصيل، وسواء اخبرنا أم لم يخبرنا، بالتأكيد لم يكن المشهد الخلاب هو الذي يشغل باله، بل الهم الأمني، فهو من دون شك موهوب لذلك، الهم الأمني متأصل في نفسه، الكل يعلم إن ما تلقاه من تدريب امني وعسكري في صفوف حركة فتح ثم لاحقا لدى الجهات التابعة للثورة الإسلامية في إيران كان شيئا محدودا نسبيا، ولكن استيعابه كان كبيرا وتطويره الذاتي للمعلومات التي يتلقاها وجهده الشخصي هو الأصل في انجازاته الأمنية والعسكرية المتعددة... هي موهبة ربانية من دون شك، كما يهب الله العيون الزرقاء لفلان والشعر الأشقر أو الحنجرة الذهبية أو أنامل الفن السحرية، يهب الله الذكاء الأمني والقدرات العسكرية المميزة.. هكذا نفسر القدرات العسكرية المميزة في التاريخ، بغض النظر عن رأينا بآرائهم الشخصية أو انتمائهم الديني، الاسكندر الكبير، نابليون، هتلر، خالد بن الوليد ... الخ.
موهبة مميزة جعلها في خدمة الدين الإسلامي وقضايا المسلمين المجمع عليها وعلى رأسها فلسطين ومواجهة الاستكبار العالمي والنفوذ الغربي... الخ.
نعم.. من نظراته الثابتة من خلال نافذة بلدية صيدا شعرنا بكل ذلك وقتها، وكانت له صورة مميزة، لم أجدها للأسف، كانت تبرزه على هذه النافذة ومسدسه ذو القبضة المميزة واضح على خصره، وأكاد اذكر الأحاديث التي دارت وقتها... وبعد حوالي ست سنوات، اذكر لقاء آخر معه في البيت في صيدا أيضا، ولا أنسى انه قد جاء برفقته قريبه المسؤول في تنظيم محلي، كان الوقت صباحا، وصنعت وقتها الفول بيدي وتناولنا الطعام سويا، وكان اعتراضه ان (المرق) كثير ينبغي إزالته، وخلال وقت قصير هو وقت هذه الزيارة لم يوفرني من ملاحظاته الأمنية، حول الزجاج المكشوف ومكان الجلوس، رغم اننا كنا نجلس على الأرض في ذلك الوقت، وكان الزجاج لا يكشفنا، وفي مناسبة أخرى خلال الفتن المتلاحقة التي كانت تعصف بالبلاد جاء بثياب رثه و "مشاية" متواضعة جدا في قدمه، جاء إلى المكتب يتفقد الشباب، هل هم على مستوى المواجهة والدفاع، ولم اعلم بوجوده إلا بعد أن ذهب ... ويبقى أن نقول انه خلال الفترة الطويلة التي غاب بها عن السمع ولم يعد وضعه الأمني يسمح بلقاءات واتصالات كان يرسل لي التحيات والسلامات ويقول صحيح انه لا يلتقيني ولكنه متابع للأوضاع، يرسل توجيهاته للشباب المولجين بالحراسة والأمن، كنا نتسقط أخباره ونعلم انه رئيسي في كل أمر ذي بال.
إلا أن قمة ما يذكر به هو عمل امني فائق الأهمية، قام به ازاء ما سمي بمعركة الأحزاب على طرابلس في خريف 1985، في ظل الخلاف المستمر بين السياسة السورية وسياسة ياسر عرفات ازاء القضية الفلسطينية وازاء اعتماد الساحة اللبنانية كمنطلق لهذه السياسة أو تلك، وسواء أصاب أم لم يصب، فقد قام تحت اسم لواء صلاح الدين او ما شابه ليوحي بان الفاعلين هم من أهل السنة، قام باختطاف ثلاثة دبلوماسيين سوفيات مات احدهم خلال الاختطاف، وبسبب تصريح صحافي لي اعتبرت فيه ان مثل هذه الأعمال ستزداد كماً ونوعاً، وجهت لي أصابع الاتهام وأصدرت بعض أجهزة المخابرات قرارا باغتيالي أو بإعتقالي بسبب الإحراج الذي سببه لهم هذا الاختطاف، وكل ما عندي هو تصريح صحافي ، وعندما انجلت الأمور قلت للمسؤول الأمني الكبير لقد أوشكتم أن تقتلوني لذنب لم اقترفه، فقال ان الذين قاموا بهذا العمل هم أبناء عمك فسررت لهذا التوصيف واعتبرت ان حقي قد وصلني، رغم الاحراج الذي رافق تلك المرحلة، والسرور كان لامرين: لان الشهيد عماد مغنية تجاوز الحواجز المذهبية والجغرافية التي تعرقل مساعي الآخرين وتقعدهم عن التصرف المناسب، ولانه اجتهد اجتهادا دقيقا في وقت ملتبس، ونكرر انه سواء أصاب أم اخطأ هو ومن معه إلا أنهم اثبتوا وحدة الجسد الإسلامي بطريقة أو بأخرى، ولا ضرورة بان نذكر بان اختطاف سوفياتي في تلك المرحلة يعني أمورا كثيرة تتجاوز كثيرا ما يعنيه اختطاف فرنس أو أميركي أو أوروبي.
من صفوف حركة فتح إلى أزمة طرابلس وما بينهما من البيانات التي كانت تصدرها منظمة الجهاد الإسلامي التي يفترض انه كان مسؤولا عنه، إلى القلق الذي سببه لبعض الأوروبيين والأميركيين المتعاطفين مع إسرائيل إلى تحوله إلى كابوس حقيقي يجعل اسرائيلي يخطط لاغتياله سنوات كما لم يفعل لأحد غيره، ويبذل من اجل ذلك جهودا مميزة الى الكثير الذي لا يمكن ذكره إلى الألم والحسرة التي عبر عنها سيد المقاومة النمفدى السيد حسن نصر الله حفظه المولى كما لم يفعل لأحد وكما لم يرث احد وكما لم يفتقد أحدا، ويكفيك بهذا فخرا واعترافا بالفضيلة والدور والمكانة، من كل ذلك نرسل لك التحية أيها البطل الهمام.. أيها المجاهد المميز.. أيها النسر في زمن العصافير.. أيها الأسد في زمن السوائم.. أيها المؤمن الصادق في زمن الكذب والنفاق.. أيها الصامد في زمن التراجع والخيانات، ستبكيك فلسطين كما بكت لفراق الكبار أمثال احمد ياسين فتحي الشقاقي و يحيى عياش وسيبكيك لبنان كما بكى عباس الموسوي وراغب حرب وأمثالهما، ولكن البكاء لا يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ولكن البكاء الصادق ينساب من مأقي الصادقين وقلوبهم الذين يعرفون قدرك وقدر أمثالك وهم قليل (ان الكرام قليل): عسى أن يجعلك ربك في عليين مع: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً }النساء69.